بقلم: د. حسن نافعة
كنت قد كتبت مقالا بعنوان «جرح مصر المفتوح في رفح» نُشر في هذا المكان منذ أسابيع، وجهت فيه تحية خاصة للرئيس مبارك بسبب موقفه من أزمة الحجاج الفلسطينيين وقراره المنفرد بإنهاء معاناتهم، والسماح لهم بالعودة إلي بيوتهم عبر معبر رفح دون انتظار موافقة إسرائيلية. واليوم نوجه التحية مرة أخري للرئيس مبارك، وهي تحية مضاعفة هذه المرة،
بسبب موقفه الرافض للحصار المضروب علي غزة، وتأكيده أن مصر لن تسمح مطلقا بتجويع الشعب الفلسطيني، ولن تكون شريكا في جرائم حرب وإبادة جماعية تصر إسرائيل علي ارتكابها في حقه. غير أنني أشرت في مقالي السابق، في الوقت نفسه، إلي أن قرار الرئيس مبارك بخصوص الحجاج -والذي وضع حدا سريعا لمهزلة كانت إسرائيل قد سعت متعمدة لإطالة أمدها إلي أقصي حد ممكن،
رغبة منها في إذلال مصر وجرح كبريائها- لا يكفي وحده لوضع حد لاحتمال تكرار مهازل مماثلة في المستقبل، وطالبت صناع القرار في مصر بإعادة النظر في الأسس، التي تقوم عليها سياستها الراهنة تجاه كل من إسرائيل والسلطة الفلسطينية، إذا ما أرادت الانعتاق من أسر القيود التي تكبلها، وتوسيع هامش حريتها في الدفاع عن مصالحها.
غير أن أحداث الأيام القليلة الماضية لا تؤكد فقط صحة ما ذهبنا إليه، ولكنها تشير أيضا، وبما لا يدع أي مجال للشك، إلي أن جرح مصر المفتوح في رفح بدأ ينزف، وربما يكون قد أصابه التلوث بالفعل. وفي تقديري أن هذا التلوث لا يعرض فقط حياة الجسد المصري المريض للخطر، وإنما بات يعرض للخطر أيضا مصير الشعب الفلسطيني، ويهدد قضيته بالتصفية النهائية.
لست من المتحمسين كثيرا لنظرية المؤامرة، ولا من المبالغين في تصوير قدرة إسرائيل والحركة الصهيونية علي الإمساك بخيوط اللعبة علي كل المستويات، غير أن السذاجة لم تصل بي بعد إلي حد إنكار وجود مشروع صهيوني له رؤية وأهداف استراتيجية شديدة الوضوح،
ويملك مهارة خاصة في انتهاز كل ما يتاح أمامه من فرص تقربه من تحقيق أهدافه، لذلك فلا شك عندي في أن إسرائيل تعكف الآن علي إعداد خطط للتعامل مع أحداث غزة الأخيرة.
وفي تقديري أن هذه الخطط تشكل خطرا ماحقا علي الأمن الوطني المصري، كما تشكل خطرا في الوقت نفسه علي القضية الفلسطينية التي باتت فعلا مهددة بالتصفية النهائية.
خطورتها علي الأمن المصري تكمن في استهدافها شبه جزيرة سيناء، والعمل علي استقطاعها من نطاق السيادة المصرية، أملا في تحويلها إلي مجال حيوي وظيفي لحل مشكلة التكدس السكاني في قطاع غزة.
أما خطورتها علي القضية الفلسطينية فتكمن في أنها تصلح مدخلا آخر، ربما يكون أكثر فاعلية لإجهاض المحاولات الرامية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ما زالت النخبة الإسرائيلية تعتبرها خطرا عليها، ولتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وتهيئة الأجواء المناسبة، للبدء في المشروعات الرامية لتوطينهم.
لإدراك طبيعة هذه الخطط يتعين العودة بالذاكرة إلي الوراء قليلا حين قاد رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، التيار الإسرائيلي الرامي لفتح حوار مع منظمة التحرير الفلسطينية كسبيل أوحد للبحث عن تسوية سلمية للصراع، شكلت اتفاقية أوسلو مرحلتها الأولي.
وقد بني هذا التيار تصوره للتسوية في ذلك الوقت علي افتراض، مفاده أن منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت في أشد حالاتها ضعفا بعد حرب الكويت، ستقبل في نهاية المطاف «حكما ذاتيا» للشعب الفلسطيني أو «شبه دولة» علي قطاع غزة ومعظم الضفة الغربية ترتبط اقتصاديا وسياسيا بإسرائيل، وتشكل مدخلا للتطبيع مع العالم العربي (مشروع بيريز للشرق الأوسط).
وبصرف النظر عما كان يدور في خلد ياسر عرفات في ذلك الوقت، والأسباب التي دعته للتوقيع علي اتفاقية أوسلو، فمن المؤكد أن اليمين الإسرائيلي رفض أوسلو، وقاومها بعناد وصلف وصمم علي إجهاضها، وربما كان اغتيال رابين، علي يد متطرف يهودي، هو البداية الحقيقية لانتكاس مشروع اليسار الإسرائيلي للتسوية وصعود اليمين بقيادة نتنياهو.
وعندما عاد للسلطة في عهد باراك تبين أن مشروعه للتسوية، الذي عرض في كامب ديفيد الثانية، كان أقل مما يمكن قبوله فلسطينيا، حتي من جانب الموقعين علي أوسلو، وأكبر مما يمكن قبوله إسرائيليا، بدليل حصول شارون علي أغلبية في الانتخابات التي أعقبت فشل قمة كامب ديفيد.
لم يكن لدي اليمين الإسرائيلي، في الواقع، أي استعداد لقبول دولة فلسطينية مستقلة في حدود 67، ولذلك فحينما طرح بوش رسميا رؤيته للحل علي أساس الدولتين، عمل شارون علي إفراغها من مضمونها، تمهيدا لإجهاضها بشكل غير مباشر، دون أن يضطر للتصادم معها مباشرة،
ونجح في ذلك إلي حد بعيد. وكان أول معالم النجاح علي هذا، طريق حصوله علي خطاب ضمانات مكتوب من بوش، يعطيه الحق في عدم الانسحاب إلي حدود 67 ورفض عودة اللاجئين، أما آخر معالم هذا النجاح فكان خطته للفصل أحادي الجانب، وقيامه ببناء سور كان يأمل في تحوله إلي «حدود دائمة لدولة فلسطينية مؤقتة»، إلي أن تتوافر ظروف أكثر ملاءمة لتصفية القضية الفلسطينية، بنزع سلاح المقاومة وتوطين اللاجئين.
وربما يكون نجاح حماس في انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني عام 2005 قد عرقل ظاهريا هذه الخطط، غير أنه ساعدها عمليا في واقع الأمر، فقد تعللت به إسرائيل لوقف التفاوض مع السلطة ومحاصرة القطاع وضغطت علي حماس عسكريا واقتصاديا، كي تلقي بسلاحها وتعترف بها وبالاتفاقيات السابقة تمهيدا لانخراطها في «العملية السلمية».
وعندما رفضت حماس قبول هذه الإملاءات سعت إسرائيل لإفساد وعرقلة محاولات التقارب بين جناحي السلطة الفلسطينية، إلي أن نجحت في دفع الأمور إلي حد الصدام المسلح بينهما، ووقوع «الانفصال» بين غزة والضفة.
وحتي وقت قريب كانت إسرائيل تعتقد أن الضغط العسكري والحصار الاقتصادي علي سكان القطاع، سيؤدي في النهاية إلي سقوط حماس، وتمكين أبو مازن من إعادة فرض سيطرته علي القطاع، تمهيدا لإبرام تسوية بشروطها. غير أن حماس تمكنت ليس فقط من الصمود، وإنما أثبتت أنها تملك ايضا أوراقا أخري مؤثرة علي الداخل الإسرائيلي،
وهي صواريخ تتطور ويزداد مداها بانتظام، ردت بها علي ما ترتكبه من مجازر بحق الفلسطينيين، لينتهي بفقدان إسرائيل أعصابها وإقدامها علي ارتكاب جريمة الحصار والتجويع، وهو ما أدي بدوره إلي دفع سكان قطاع غزة لتحطيم معبر رفح، وبروز وضع جديد، تعامل معه مبارك بحكمة.
لا نملك دليلا يشير إلي أن إسرائيل كانت تدفع بالأمور، عمدا، نحو هذه الوجهة، وفق خطة معدة سلفا، غير أن هناك ألف دليل ودليل علي أن أوساطا إسرائيلية تعمل الآن بجدية لاستغلال التطورات الجديدة والاستفادة منها لأقصي حد، وذلك من خلال خطوات محددة يمكن تلخيصها علي النحو التالي:
1- قطع صلات إسرائيل بقطاع غزة نهائيا، واعتبارها غير مسؤولة عن مده باحتياجاته الأساسية، خاصة من الكهرباء والطاقة.
2- وضع مصر أمام خيار لا تستطيع معه سوي التكفل بمد القطاع بكل احتياجاته.
3- دفع مصر في خطوة تالية لضم القطاع وإدارته مباشرة، خصوصاً إذا استمر إطلاق الصواريخ، وهو أمر يصعب تصوره بدون نزع سلاح المقاومة.
4- تفعيل مايسمي الخيار الأردني وفتح مفاوضات مع الأردن لإعادة الضفة إليها، بعد اقتطاع القدس والكتل الاستيطانية المحيطة وربما غور الأردن أيضا.
5- الادعاء بأن هذه مرحلة مؤقتة، تمهد لإقامة مؤسسات ديمقراطية، قادرة علي حمل أعباء الدولة الفلسطينية في المستقبل.
6- ممارسة كل أنواع الضغوط المتصورة علي كل الدول العربية المعنية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين حيث هم، مع فتح «متنفس» لفلسطينيي غزة في شبه جزيرة سيناء المنزوعة السلاح تحت غطاء مشروعات تنموية تستهدف تحويل هذه المنطقة علي المدي الطويل إلي منطقة «إدارة إسرائيلية مصرية مشتركة» يمكنها استيعاب فلسطينيي 48، حفاظا علي يهودية إسرائيل.
وفي تقديري أن أوساطا نافذة في إسرائيل بدأت تفكر الآن في مثل هذا الحل، من منطلق أنه الوحيد الذي يتيح لها إمكانية نزع فتيل القنبلة الديموغرافية الفلسطينية ويضمن لها في الوقت نفسه المحافظة علي يهوديتها وتنقيتها من دنس «الأغيار».
والسؤال: هل لدي مصر والدول العربية خطط مضادة لمواجهة مثل هذه الاحتمالات؟ أظن أن هذه الخطط يجب أن تبدأ علي الفور بالعمل علي تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية، وإلا فالطوفان قادم.
سؤال ...... اجمع كل السياسين على طرحه والتفكير فيه